بقلمي أصالة أبو عبيدة
بلا شيء
الجرحُ الأول ينزِفُ بلا رحمة ويتعمدُ أن يُكرِّرَ نزيفه كلما لاعبت كلمات من عابِر شرخه، والجرحُ الثاني كندبةٍ مختبئةٍ في قعرِ أقدامنا لا يمكن للغرباءِ ملاحظتها ووحدنا مَن نشعرُ بوجعها كلما حاولنا المُضيِّ قُدُمًا، أما عن الجرحِ الثالث فيأتي ثائرًا في وجهِهِ أخوانه السابقين، يأتي ظالمًا أكثر منهم وظاهرًا أكثر منهم يأتي مستبدًا نرجسيًا لا يرحم ويحاولُ بكل الطرقِ العبثيةِ استفزاز أقرانهِ على التمردِ، يلعب متعمدًا بالجرح الأول ويتمادى في القاءِ اللوم على الجرح الثاني، أما عن نفسِهِ فيبقى نرجسيًا وقاسيًا لا يعترف بخطئهِ.
لا أظنُ أنك تفهمُ كلماتي فالأُمِّيُّ في الحبِّ أمِّيٌّ في القراءةِ والكتابةِ، ولكن هذا لن يثنيني عن ذلك لأنّي على يقينٍ تامٍّ بأن ابنتِكَ هي من ستحِلُّ شيفرة كلماتي عندما ترى في وجهِها الشاحِبِ تفاصيلُ قتلي، وتُدرِكُ في امتناعِها عن الطعامِ ، كيف كنتَ شهمًا ورجلًا وزاهدًا في بيعي، سيُفزِعُك أنينها في اللَّيل وسيقتُلكَ فضولُ فتح الباب عليها ولن تفعل، وستربتُ على كتفك امرأتك وستحاولُ تخفيفَ قلقك ولن تنجح ووحدك أنتَ وأنتَ وحدكَ مَن سيعقلُ حينَها كل حرفٍ كتَبتَه وستَتَجرَّعُ دمًا وألمًا وندمًا لن ينفعك أبدًا.
النساءُ الضعيفاتُ هن اللواتي يرتجين الشفقة ووحدَهُنَّ مَن يُحاوِلْنَ ترميمَ المُكسَّرِ وهن أيضًا من يرتدين السذاجةَ مبررات للظالمين ظلمهم ليقعوا في ظلمٍ أكبر، أما أنا فدائِمًا ما أحلِّقُ في أسرابِ القويات وإن لم أجدهن حلَّقتُ وحدي باحثةً عن وجهةٍ جديدةٍ، أحملُ أمتعتي وأجدِّدُ التّوضُّأ بماءِ الكرامةِ وأشربُ كأسَ العزةِ وأمضي وحدي، لا تخيفيني الطرق الجديدة ولاترعبني الطرق المظلمة ودائمًا ما أشُقُّ الطرقَ التي لم يسبقني إليها أحد سواي، أُعبِّدُها لغيري وأكتفي دومًا بلقبِ الأولى.
صدى عقلي كان يدوي في رأسي مرددًا خسارَتُكِ كبيرةٍ، وصوت من آخر الطريق يردُّ عليه بنبرةٍ غليظةٍ بل مغَنَمِها أكبر، وتُهتُ بين الصوتين فترة لم تكن أبدًا بالقصيرة، فماذا خسرتُ غير رجل أناني يصب في وعائِهِ كل البطولات، غير رجل نرجسي يدوسُ بأقدامِهِ على من هم أقل غير إنسان كان مختبئًا تحت برواز رجولة صدئ مهترء وقع عند أول انحناءَة خصر ولحن في الكلام، ماذا خسرت غير إنسان تبهرهُ المعادنُ المزيفة البراقة وتشدُّه أرقام العملات وتُذهِبُ عقله المناصب والترفيعات ويبحثُ دومًا عن كل ما يُغذي عنده هذه الفجوات، وكان مغنمي شيئًا لا تشتريه الأموال ولا يُطال بكثرةِ الألقاب، ولا يُدركُه أشباهُكَ من أمثالِ الرِّجال.
وظننتُكَ مِمَّنْ يُدرِكون ماهيةَ الأشياء فوضعتُ الذَّهبَ الغالي على ميزانِكَ وأدركتُ بعد ألف مدةٍ أنَّكَ لا تعلمُ ما هو الذهب وأن ميزانَكَ أعظمُ ما يُقاسُ عليه هو الخشب، وأنَّك أقلُّ بكثيرٍ مما تَدَّعي وأصغر بكثيرٍ من أن تركب قوافل المواقف وأضعفُ بكثيرٍ من أن تحمِلَ على كتفيكَ طيلةَ حياتِكَ إمرأةً من ذهبٍ.
وظننتُ أنّي إمرأةً تمزقُها عواطفُها وتُشعِلُ في خلايا جسمِها النيران، وتَقِفُ على الأطلالِ هائمةً تبحثُ عن أيّ دلال، وتطرقُ الأقفال مرتجفة خوفًا أن تصد في وجهها الأبواب، فخانني ظني وكنتُ ومازلتُ إمرأةً تُزهِرُ كُلَّما ضَرَبَتْها الأَمطارُ ويفوحُ عِطرُها كلَّما اشتدَّت عليها الرياح .