بقلمي أصالة أبو عبيدة
لمتابعتي على مواقع التواصل الاجتماعي
شُرّفَةُ الحُبّ
النّظرةُ الأوّلى تُشبِهُ فَورَةَ الْقهوةِ الأوّلى حتميّة، لكنَّها لا تُرضينا، وَرغم تَمَرُدي وَنهمي الشّديدُ في امتلاكِ كلّ شيءٍ، إلا أنّ هذه النّظرة كانتْ تُرضيني، رُبما لأنني كُنتُ على يَقينٍ تامّ بأنّ نَظراتِي كانت قاصِرةٌ عاجِزةٌ، إلا أنّ نظراتك دائمًا مَا تُلاحِقني وتَنقَضُّ على كلّ تفاصيلي، وكان ذلك بِقواعِدِ الْغُرور في عالمنا النسويّ يُرضيني، وكلّما نظرتُ إلى عَينيكَ السوداوتين مُحاولةً استِنطاقُهُما كان شُعاعُ الحُبّ يخرجُ مِنهُما، فتنكَسِرُ زاويةُ نظري لتَرتَجِفَ أجزائي، ويَقفِزُ زَهرُ الأمارلس إلى خدودي.
لا أدري كيفَ استوطَنتْ أجزائِيّ؟، ومتى أرسَيتَ سُفُنُكَ على شواطِئ أهدابي؟، وكيفَ لنوّاةِ الحُبّ أنْ تنمو بِشُحِّ الْكَلِمَةِ؟، وهل لِنُدرةِ اللِقاء بَيننا أنْ تُفجّرَ كلّ هذه الينابيع من الْحُبِّ والاشتياقِ؟، لم أفهم بعد كيفَ لخمسةِ حروفٍ مُتصلةٍ ينطقُ بها فجأةً أمامي أنْ تحْدِثَ كلّ هذا القرعِ للطبولِ في داخلي!، ولم أفهمْ تواجدكَ الكثيفُ بين غيومِ أحلامي!، وكمْ أقلقني الْفُستانُ الأحمرُ الّذي رأيتُكَ تُهديه لي في إحدى مناماتي، وحاولتُ ربطَ الأحداثِ واستِقْراءِ المنطقِ بِعقليةِ إنسانة رَكضتْ خمسَ سَنواتٍ بينَ متاهاتِ العلومِ، ورُموزِ الكيمياءِ، وَقوانينِ الْفيزياءِ، ولوغريثميات الرّياضياتِ، ولكن كل هذه العلوم أُركِستْ أمامي، وأدركتُ حينها أنّ ما أمرُّ به كالسرِّ الأعظم، ككتاباتِ الْفَراعنةِ الْهيروغلوفية على جُدرِ الْعجائبِ وكعالمِ الْبرزَخِ لا يدركُ بالمنطقِ وأنّ الْسبيلَ الوحيدُ لإدراكِهِ هو الإيمان.
وحاولتُ… وحاولتُ… وحاولتُ، جاهدةً تبديدَ هذا المنطقِ ولم أقدرْ، وجلستُ على قارِعَةِ الْطريق الّذي لطالما كشفتَ لي عن أجزائهِ ودللتني على المُخبئِ في رحمهِ وسألني: لمَ أنتِ وحيدة؟!، وكان فيضُ الدّمع في عينيّ العسليتين كفيلأ بجوابِ سؤاله وتنهيدةِ الوجعِ الّتي شقّتْ قلبي فورَ خُروجها أجابتْ عن الْتالي من الأسئلةِ، أمّا الطّيورُ البيضاء الّتي كانت تُحلّق بعيدًا عندما نكون سويًّا، هَرعتُ مُسرعةً إلى كَتفي الأيسر الصّغير، وَلا أدرِي إنْ جائتْ مواسيةً أمّ باحثةً عن الحُبِّ هي أيضًا، ويدُّ جدي المليئة بتجاعيدِ الْحِكمِ والْتفاصيلِ حَطتْ على كتفي الأيمنِ.
” الْحُبّ كالقدرِ أيًّا كانت قوتنا لا يمكننا مُجابهته”، هذا ما قالهُ لي جَدي، ونظراتُ التَعجبِ الّتي تَمددت في بحارِ عينيَّ مُتسائلةً كيفَ عرفَ ذلك ومختجلة منْ ذلك؟، أجابِها قائلاً: لا تَختجلي يا طِفلَتي، فإنَّ كان الحُبُّ خطيئةً فإنّي أدعو اللهَ أنْ يَقترفَها العالمُ بأسرّهِ.
قلتُ له: أتتمنى هلاكًا للعالمِ!؟، ابتسم قائلًا: من يَفُّكُ شيفرةَ الحُبّ ويُمسكُ بقلبهِ مَفاتيحه يعيّ جيّدًا أنّهُ الحياة، ويتفهمُ أنّ الْهلاكَ لا يكونُ إلا في مُوروثات الْجهلِ والْعادةِ والعُرفِ الّتي وَضعها من حُرمٍ لجهلهِ بالحبِّ عن الحبِّ.
لم أفهمْ حينها كثيرًا ما قالهُ جَدي، ولكني كُنتُ على يقينٍ تامٍّ بأنَّ الأجدادَ لا يَتفوهونَ إلا بالحقائقِ، وأنّ معظمَ جُملهم الّتي يُنهون بها مساقَ أيّ حديثٍ بضحكةِ آسفٍ شديدةٍ غالبًا ما تَحملُ جلَّ الْفكرة، وحملتُ كَلماتهِ مَعي طيلةَ هذه السنين كَما يحملُ السياسيّ حَقيبةَ خِطاباتِهِ.
ووقفتُ على مرآتي ذاتِ الإطارِ الْعَسليّ الّذي شربَ لونهُ من انعكاسِ عيوني على أطرافهِ، المَحشوّةِ بذكرياتي وتَفاصيلِ أياميَّ، وارتَسَمتْ في مرآتي صورَةُ غانيةٍ فاتِنَةِ الْمَلامِحِ.
مررتُ يديّ عليها لأتفقدَ حَقيقتها، فإذا بزهورِ الكّرزِ تُزهرُ من خصلاتِ شَعرِها، تتناثرُ في أرجاءِ الْغُرفةِ مُناديةً على فَراشاتِ كريسبريديا ريفيوسِ الحمراءِ؛ لِتحمِلَ رحيقَ الْعَسَلِ الْممتلئ بشفتيها، والْعُطرُ الإسكاديُّ النائمُ تَحتَ خديّها، أمعَنتُ النّظرَ أكثرَ وإذ بحمامِ الملكِ يَطُلُّ من مرآتي، يَسجعُ بصوتٍ خافت: نحنُ هُنا؛ لأنّكِ صاحِبةُ القلبِ الأجملِ. ارتعبتْ حينَها وعندما حاولتُ تحرِيكَ شفتايَّ، وإذا بكلِّ الصُّورةِ تَتَبدد، وَعَلِمتُ حينها أنّي ما خُلقتُ لرجلٍ يحملُ بينَ أضلعهِ قلبٌ إنسيّ.
لمتابعة الرسالة الاولى