بقلمي أصالة أبو عبيدة
ذكريات لا تموت ..
يَحمِلُ أَيلُولٌ كَعادَتِهِ مَا لا تَحمِلُهُ شُهورُ الْعامِ، فيَأتِي مُحمَلًا بِأحلامِ الْفَتَياتِ الْغَارِقَاتِ بِقِصَصِ الْخَيَالِ، ويَأتِي حَامِلًا مَعهُ رَائِحَةَ الْبِدَاياتِ لِهَؤلاءِ الّذين سَئِموا الْوقوفَ على أعتابِ النّهاياتِ، ويَأتِي أيلُولٌ وَنحنُ نَقِفُ عَلى أَبوابِهِ، كَالأطفَالِ الّذينَ يَنتَظِرونَ تَلّويحَة منْ سَاعٍ يَحمِلُ فِي جُعبَتِهِ كُلَّ الرَّسائِلِ الّتي لَطالَما حَلُمنا بِهَا فِي لَيالينا الْبيضاءِ تَحتَ أوراقِ الشَّجَرِ، وَكانَ وَحدَهُ الْقَمرُ مَن يَحقُّ لَهُ التَّلصُصَ عَلى أحلامِنا الّتي جَاهَدْنا إخفائِها عَن أعيُنِ البَشر.
لَا أَذكُرُ الْيَوم وَلا حَتّى السّاعَةَ الّتي بَدأَ فِيها الطَّوفان؛ لِأنَّ الْذاكِرة تَخونني فِي أَغلَبِ الْأوقَاتِ وَالْأزمَانِ، وَهِي الْخِيانَّة الوَحِيدَة الّتي أُرَحِبُ بِها عَلى غِرارِ غَيرِها مِنَ الْخِياناتِ؛ لأنّها تَعفِينِي مِنْ غَصّةِ الْيومِ، وَقَهرِ السَّاعَةِ والدَّقيقَةِ.
مُذْ أنّ رَأيّتُك ذَلك الْيوم ارْتَسَمتْ كُلّ تَفاصِيلُكَ فِي ذَاكِرَتِي مِن نَظرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمع إغلاقِ أجفَانِي لَمَعتْ صُورَتُكَ فِي ذَاكِرَتي، وَأدرَكْتُ حِينَها أنّ اللُعبَةَ قَد بَدَأَتْ، فَذاكِرَتِي أَنِيقَةٌ لا تَنْتَقِي أيَّ صُورَةٍ ولا يَلمَعُ فِيها إلَّا الْمُمَيَّزُون.
وَكَعادَتِي أُحَاوِلُ إخمَادَ كُلِّ الْأسئِلَةِ الّتِي تَندَرِجُ تَحتَ الصُّوَرِ المُلتَقِطَةِ فِي عَقلي، إلّا أنّ كُلّ الأسئِلَةِ الّتِي كَانت تَدورُ حَوّلَ صُورَتِكَ عَاقَةٌ، وَرَفَضتْ إلّا أنْ تَحصُدَ الإجَاباتِ، وَكيّ لا أفتَحَ بَابَ الأسئِلَةِ عَلى مَصرَعَيّهِ أجَبْتُ بَعضَها، واستَخدَمْتُ قُوّتِي لِأمنَعَ تَدَفُقَ الْبَقِية، وَحَصَلَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْحُسبانِ، بَدَأَ ضَجِيجُ الأسئِلَةِ فِي عَقلِي يَعلُوّ أَكثَرَ وَأَكثَرَ، وأُشعِلَ أَوّلُ فَتيلٍ.
مَاذا؟
وكَيفَ؟
وَهلْ قَصَدَ ذَلِكَ فِعلًا؟!
شَلالُ الْأسئِلَة هَذا كَان كَالمَطر يَضرُبُ عَلى أَرضِيَّةِ قَلبِي الّتِي عَانت مِن الْجفافِ لِسَنَّواتٍ، وَعِندما رَأيتُ الْأرضَيَّة تَتَوسعُ وَتُحاوِلُ بَعضُ سِيقانِ الْوُرودِ إخرَاجَ رُؤوسِهَا لِتَستكشِفَ الْمَكانَ، نَهرتْ فِي وَجهِهِ الأسئِلَةِ، عَلَّ خُيوطُ الْمَطَرِ تَتَوقَفُ وَيَنتَهِي هَذا الإنبَاتُ، ولكن وَعبَثًا لِكُلِّ مُحَاوَلاتِي فَلمْ أَجنِّي مِنهَا إلّا مَزِيدًا مِنَ الأمطَارِ.
للمَرّةِ الأوّلى أَقِفُ عَاجِزَةً عَن دَرءِ الْأخْطَارِ، وَبِالرَّغمِ من اتِفاقِ قَلبيِ وَعَقليِ إلّا أنّ نَاقوسًا فِي مُؤخِرَةِ نَفَقِ حَدّسِي كَان يَدُّقُ مُحَذِرًا مِن شَيءٍ مَا، هَذا الْنّاقُوسُ أيّها الْغَريِبُ كَانَ يَطّرَحُ أسئِلَة تُشابِهُ الأسئِلَةِ الْمُندَرِجَةِ تَحتَ صُورَتِكَ، وَلَكِن هَذا الْنَّاقوسُ يَدّرُجُها الآن تَحتَ صُورَتِي، وَمَع كُلِّ سُؤالٍ كُنتُ أتلَّقاهُ وَأُجِيبُهُ، كَانت وَردَةً مِن أَرضِيَّةِ قَلبي تُجتَثُّ اجتِثَاثًا، وَكَانتْ دُموعِي تَتَبلور فِي عَينيَّ مُمزَّقَة أجفاني إنّ حَاولتْ الإغماضَ وَتَجاهُلَ أجرَاسِ الْنَّاقوسِ الْمُمتَدَّةِ فِي دَمّي.
هذا الصِّراعُ الّذي عَاشَتْهُ بَينَ أجزَائِي أَنتَ لا تُدرِكُ ماهِيَّته وَلا تَعلَمُ عَنه شيئًا، وَلا يُعنِيني حَقًّا أنْ تَعِيّ أيًّا مِنْ تَفاصِيلِهِ، وَلَكنْ مَا يُعنِينِي حَقًّا أنْ تَعلَمَه، أنّك أنتَ مَنْ أشعَلتْ الْفَّتِيلَ بِنَظراتِكَ الْمَدرُوسة مُسبَقًا، وَأجْجتَ النَّارُ فِي كُلِّ خَلِيَّةٍ مِنْ عَقلي بِمُباغَتَاتِكَ اللَّطِيفَةِ بِعَينِيّ السَّاذجةِ وَالمُعِدَّةِ مُسبَقًا بِعَينِيّ الْحَقِيقَةِ، للإيقاعِ بِغزالٍ جَاءَ نَاجٍ مِن أسدٍ حَاولَ افتراسهُ أكثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَوَقَفَ عَلى النَّهرِ مَلهُوفًا عَطِشًا لِيَروي ظَمَأَهُ.
أمّي كَانتْ تُخبِرُنِي دَائِمًا أنّ آخُذَ حَذَرِي مِن أيّ ثلاثينيّ؛ لأنّ غَالِبَ طَبعِ الثّلاثِينيّ عَبَثيّ، وَأنا أيَضًا كُنتُ عَبَثِيَّة؛ لأنَنِي لا أُصَادِقُ مَقولاتِها، بَلْ أخضَعَها للتَّجريِبِ والاختِبارِ لِيَتَشَكَلَ صُندوقُ حِكمَتِي مِن خِبرَتِي لا مِنْ حِكَمٍ وَنَصائِحِ وَآراءِ وَالِدّتِي، وَالغَرِيبُ فِي الأمرِ أنَنِي صَدّقْتُ مَقولَةَ أحَدِهِم عِندَما قَال لِي: “ابني تَجارُبكِ بِنفسِكِ، وَتَعَلَمِي مِن سِهَامِ أخطَاءكِ”.
وَكَانتْ هَذِهِ النَّصِيحَةِ الَوحِيدَةِ الّتي لَمْ أُخضَعْها للتَجرُبَةِ، وَأُخضِعَتُ مَا بَعدَها لِكُلِّ التَّجارُبِ وَالاختِبارَاتِ، ولو أنَنِي كَذَّبتُ هَذِهِ المَقُولَةِ وَصَدَّقتُ مَا قِيلَ بَعدها لِمَا جَنيتُ مِنك وَمِن غَيرِكَ هذا الكَمُّ الهَائِل مِنَ الخَساراتِ، وَمَع ذَلك فَنصائِحُ الأمَهاتِ تَسيلُ ذهبًّا نَقِيًّا خالِصًّا بَينَ جُروحِنا لِتجعَلَنا أجملَ بَعدَ كُلِّ هَذِهِ الخَسارات.